سورة طه - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)}
قوله تعالى: {قالَ أَلْقِها يا مُوسى} 20: 19: لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا، {فَأَلْقاها 20: 20} موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها. وكانت عصا ذات شعبتين فصارت الشعبتان لها فما وصارت حية تسعى أي تنتقل، وتمشي وتلتقم الحجارة فلما رآها موسى عليه السلام رأى عبرة ف {- وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10]. فقال الله له: {خُذْها وَلا تَخَفْ 20: 21} وذلك أنه {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً 20: 67} [طه: 67] أي لحقه ما يلحق البشر. وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهى سيرتها الأولى، وإنما أظهر له هذه الآية لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون. ويقال: إن العصا بعد ذلك كانت تماشيه وتحادثه ويعلق عليها أحماله، وتضيء له الشعبتان بالليل كالشمع، وإذا أراد الاستقاء انقلبت الشعبتان كالدلو وإذا اشتهى ثمرة ركزها في الأرض فأثمرت تلك الثمرة.
وقيل: إنها كانت من آس الجنة.
وقيل: أتاه جبريل بها.
وقيل: ملك. وقيل قال له شعيب: خذ عصا من ذلك البيت فوقعت بيده تلك العصا، وكانت عصا آدم عليه السلام هبط بها من الجنة. والله أعلم. قوله تعالى: {فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى 20: 20} النحاس: ويجوز {حية} يقال: خرجت فإذا زيد جالس وجالسا. والوقف {حيه} بالهاء. والسعي المشي بسرعة وخفة. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خافه ونفر منه. وعن بعضهم، إنما خاف منه لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل لما قال له ربه: {لا تَخَفْ 70} بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها. {سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى 20: 21} سمعت علي بن سليمان يقول: التقدير إلى سيرتها، مثل {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] قال: ويجوز قوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ} 20: 22 يجوز في غير القرآن ضم بفتح الميم وكسرها لالتقاء الساكنين، والفتح أجود لخفته، والكسر على الأصل. ويجوز الضم على الاتباع. وئد أصلها يدي على فعل، يدل على ذلك أيد. وتصغيرها يدية. والجناح العضد، قاله مجاهد. وقال: {إِلى} بمعنى تحت. قطرب: {إِلى جَناحِكَ} إلى جيبك، ومنه قول الراجز:
أضمه للصدر والجناح ***
وقيل: إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح. لأنه مائل في محل الجناح. وقيل إلى عندك.
وقال مقاتل {إِلى} بمعنى مع أي مع جناحك. {تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير برص نورا ساطعا، يضئ بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا. عن ابن عباس وغيره: فخرجت نورا مخالفة للونه. و{بَيْضاءَ} نصب على الحال، ولا ينصرف لان فيها ألفي التأنيث لا يزايلانها فكأن لزومهما علة ثانية، فلم ينصرف في النكرة، وخالفتا الهاء لان الهاء تفارق الاسم. و{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} {مِنْ} صلة {بَيْضاءَ} كما تقول: ابيضت من غير سوء. {آية أخرى} سوى العصا. فأخرج يده من مدرعة له مصرية لها شعاع مثل شعاع الشمس يعشي البصر. و{آيَةً 10} منصوبة على البدل من بيضاء، قاله الأخفش. النحاس: وهو قول حسن.
وقال الزجاج: المعنى آتيناك آية أخرى أو نؤتيك، لأنه لما قال: {تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} دل على أنه قد آتاه آية أخرى. {لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى} يريد العظمى. وكان حقه أن يقول الكبيرة وإنما قال: {الْكُبْرى 20: 23} لوفاق رءوس الآي.
وقيل: فيه إضمار، معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى دليله قول ابن عباس يد موسى أكبر آياته.


{اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)}
قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} لما آنسه بالعصا واليد، واراه ما يدل على أنه رسول، أمره بالذهاب إلى فرعون، وأن يدعوه. و{طَغى 20: 24} معناه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحد. {قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي} 20: 25- 30 طلب الإعانة لتبليغ الرسالة. ويقال: إن الله أعلمه بأنه ربط على قلب فرعون وأنه لا يؤمن، فقال موسى: يا رب فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه، فأتاه ملك من خزان الريح فقال: يا موسى انطلق إلى ما أمرك الله به. فقال موسى عند ذلك: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي 20: 25} أي وسعه ونوره بالايمان والنبوة. {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} 20: 26 أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي} 20: 27 يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فيه وهو طفل. قال ابن عباس: كانت في لسانه رتة. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم وهو طفل فلطمه لطمة، واخذ بلحيته فنتفها فقال فرعون لآسية: هذا عدوي فهات الذباحين. فقالت آسية: على رسلك فإنه صبي لا يفرق بين الأشياء. ثم أتت بطستين فجعلت في أحدهما جمرا وفي الآخر جوهرا فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها في فيه على لسانه، فكانت تلك الرتة. وروي أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ. ولما دعاه قال إي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة. ثم اختلف هل زالت تلك الرتة، فقيل: زالت بدليل قوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى 20: 36} [طه: 36] وقيل: لم تزل كلها، بدليل قوله حكاية عن فرعون: {وَلا يَكادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]. ولأنه لم يقل: احلل كل لساني، فدل على أنه بقي في لسانه شيء من الاستمساك.
وقيل: زالت بالكلية بدليل قوله: {أُوتِيتَ سُؤْلَكَ 20: 36} [طه: 36] وإنما قال فرعون: {وَلا يَكادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] لأنه عرف منه تلك العقدة في التربية، وما ثبت عنده أن الآفة زالت.
قلت: وهذا فيه نظر، لأنه لو كان ذلك لما قال فرعون: {وَلا يَكادُ يُبِينُ} حين كلمه موسى بلسان ذلق فصيح. والله أعلم.
وقيل: إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه. {يَفْقَهُوا قَوْلِي} 20: 28 أي يعملوا ما أقوله لهم ويفهموه. والفقه في كلام العرب الفهم. قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه. تقول منه: فقه الرجل بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه. وأفقهتك الشيء. ثم خص به علم الشريعة، والعالم به فقيه. وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك. وفاقهته إذا باحثته في العلم، قاله الجوهري. والوزير المؤازر كالاكيل المؤاكل، لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. في كتاب النسائي عن القاسم بن محمد: سمعت عمتي تقول قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه». ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله» رواه البخاري. فسأل موسى الله تعالى أن يجعل له وزيرا، إلا أنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى لا يكون شريكا له في النبوة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة. وعين فقال: {هارُونَ} وانتصب على البدل من قوله: {وَزِيراً}. أو يكون منصوبا بـ {اجْعَلْ} على التقديم والتأخير، والتقدير: واجعل لي هرون أخي وزيرا. وكان هرون أكبر من موسى بسنة، وقيل: بثلاث. {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أي ظهري. والأزر الظهر من موضع الحقوين، ومعناه تقوى به نفسي، والأزر القوة وأزره قواه. ومنه قوله تعالى: {فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ} [الفتح: 29] وقال أبو طالب:
أليس أبونا هاشم شد أزره *** وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
وقيل: الأزر العون، أي يكون عونا يستقيم به أمري. قال الشاعر:
شددت به أزري وأيقنت أنه *** أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه
وكان هرون أكثر لحما من موسى، وأتم طولا، وأبيض جسما، وأفصح لسانا. ومات قبل موسى بثلاث سنين. وكان في جبهة هرون شامة، وعلى أرنبة أنف موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده، وقيل: إنها كانت سبب العقدة التي في لسانه. والله أعلم. {وأشركه في أمرى} أي في النبوة وتبليغ الرسالة. قال المفسرون: كان هارون يومئذ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي هرون، وأوحى إلى هرون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحى إليه، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولا. وقرأ العامة {أخي اشدد} بوصل الالف {وَأَشْرِكْهُ 20: 32} بفتح الهمزة على الدعاء، أي أشدد يا رب أزري وأشركه معي في أمري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحرث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق {أشدد} بقطع الالف {وأشركه} بضم الالف أي أنا أفعل ذلك أشدد أنا به أزري {وأشركه} أي أي أنا يا رب {فِي أَمْرِي}. قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله: {اجْعَلْ لِي وَزِيراً 20: 29} وهذه القراءة شاذة بعيدة، لان جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة، فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري، وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيخبر به، إنما سأل الله عز وجل أن يشركه معه في النبوة. وفتح الياء من {أَخِي} ابن كثير وأبو عمر. {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} 20: 33 قيل: معنى {نُسَبِّحَكَ 20: 33} نصلي لك. ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان. أي ننزهك عما لا يليق بجلالك. و{كَثِيراً} نعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نعتا لوقت. والإدغام حسن. وكذا {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} 20: 34. {إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً} 20: 35 قال الخطابي: البصير المبصر، والبصير العالم بخفيات الأمور، فالمعنى، أي عالما بنا، ومدركا لنا في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا أيضا كذلك يا رب.


{قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42)}
قوله تعالى: {قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى} 20: 36 لما سأله شرح الصدر، وتيسير الامر إلى ما ذكر، أجاب سؤله، وأتاه طلبته ومرغوبة. والسؤل الطلبة، فعل بمعنى مفعول، كقولك خبز بمعنى مخبوز واكل بمعنى مأكول. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى} 20: 37 أي قبل هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الاعداء في الابتداء، وذلك حين الذبح. والله أعلم. والمن الإحسان والإفضال. وقوله: {إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى} 20: 38 قيل: {أَوْحَيْنا} ألهمنا.
وقيل: أوحى إليها في النوم.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} 20: 39 قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان أسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز. {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} 20: 39 أي اطرحيه في البحر: نهر النيل. {فَلْيُلْقِهِ} 20: 39 قال الفراء: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ 20: 39} أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا قوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ}. [العنكبوت: 12]. {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} 20: 39 يعني فرعون، فاتخذت تابوتا، وجعلت فيه نطعا ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وخصاصه- يعني شقوقه- ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون.
وروى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وقيرته وجصصته، ثم ألقته في اليم. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية، إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبي أصبح الناس، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه. ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل، فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة. والله أعلم.
وقيل: وجدته ابنة فرعون وكان بها برص، فلما فتحت التابوت شفيت. وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته، فإذا صبي نوره بين عينيه، وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه. وكانت لفرعون بنت برصاء، وقال له الأطباء: لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت.
وقيل: لما نظرت إلى وجهه برئت. والله أعلم.
وقيل: وجدته جوار لامرأة فرعون، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيا من أصبح الناس وجها، فأحبه فرعون. فذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} 20: 39 قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه.
وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه.
وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه.
وقال عكرمة: المعنى جعلت فيك حسنا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك.
وقال الطبري: المعنى ألقيت عليك رحمتي.
وقال ابن زيد: جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك. {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي} 20: 39 قال ابن عباس: يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت، وحيث ألقي التابوت في البحر، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون، فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه، فقالت منهن واحدة: لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لانفسكن. وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري. فذهبن بالتابوت إليها مغلقا، فلما فتحته رأت صبيا لم ير مثله قط، وألقى عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون، فقالت له: [القصص: 9] {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. فبلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن فرعون قال نعم هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق» فقالت: هبه لي ولا تقتله، فوهبه لها.
وقيل: {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي} أي تربى وتغذى على مرأى مني، قاله قتادة. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة، يقال: صنعت الفرس وأصنعت إذا أحسنت القيام عليه. والمعنى. {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي 20: 39} فعلت ذلك.
وقيل: اللام متعلقة بما بعدها من قوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} على التقديم والتأخير ف {- إِذْ} ظرف {لِتُصْنَعَ}.
وقيل: الواو في {وَلِتُصْنَعَ} زائدة. وقرأ ابن القعقاع {ولتصنع} بإسكان اللام على الامر، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب. وقرأ أبو نهيك: {ولتصنع} بفتح التاء. والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي وعلى عين منى. ذكره المهدوي. {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} العامل في {إِذْ تَمْشِي 20: 40} {أَلْقَيْتُ} أو {تصنع}. ويجوز أن يكون بدلا من {إِذْ أَوْحَيْنا} وأخته اسمها مريم. {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ} وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا، فقالت: إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي؟. قالت: أمي. فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخى هرون. وكان هرون أكبر من موسى بسنة.
وقيل: بثلاث.
وقيل: بأربع، وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها، قاله ابن عباس. فجاءت الام فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى: {فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ} 20: 40 وفي مصحف أبي {فرددناك}. {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ} وروى عبد الحميد عن ابن عامر {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} بكسر القاف. قال الجوهري: وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. ورجل قرير العين، وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في مريم. {وَلا تَحْزَنَ} أي على فقدك. {وَقَتَلْتَ نَفْساً} 20: 40 قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة. في صحيح مسلم: وكان قتله خطأ، على ما يأتي. {فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ} 20: 40 أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} 20: 40 أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة، وقال قتادة: بلوناك بلاء. مجاهد: أخلصناك إخلاصا.
وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها: حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمة إلى صدره، وقال له: أتعبتني وأتبعت نفسك، ولم يغضب عليه. قال وهب ابن منبه: ولهذا اتخذه الله تعالى كليما، وقد مضى في النساء. قوله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} 20: 40
يريد عشر سنين أتم الأجلين.
وقال وهب: لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة إقامة عنده حتى ولد له عنده. وقوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى} 20: 40 قال ابن عباس وقتادة وعبد الرحمن بن كيسان: يريد موافقا للنبوة والرسالة، لان الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة.
وقال مجاهد ومقاتل: {عَلى قَدَرٍ 20: 40} على وعد.
وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجئ فيه. والمعنى واحد. أي جئت في الوقت الذي أردنا إرسالك فيه.
وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا *** كما أتى ربه موسى على قدر
قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 20: 41 قال ابن عباس: أي اصطفيتك لوحي ورسالتي.
وقيل: {اصْطَنَعْتُكَ 20: 41} خلقتك، مأخوذ من الصنعة.
وقيل: قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمرى ونهى. {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي} 20: 42 قال ابن عباس: يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. {وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي} 20: 42 قال ابن عباس: تضعفا أي في أمر الرسالة، وقاله قتادة.
وقيل: تفترا. قال الشاعر:
فما ونى محمد مذ أن غفر *** له الاله ما مضى وما غبر
والونى الضعف والفتور، والكلال والإعياء وكله مراد في الآية.
وقال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى *** أثرن غبارا بالكديد المركل
ويقال: ونيت في الامر أني ونى وونيا أي ضعفت فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا أضعفتها وأتعبتها: وفلان لا يني كذا، أي لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة:
كأن القدور الراسيات أمامهم *** قباب بنوها لا تني أبدا تغلى
وعن ابن عباس أيضا: لا تبطئا.
وفي قراءة ابن مسعود: {ولا تهنا في ذكري} وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8